[ بمناسبة مرور عامين على اندلاع الثورة السورية، توجّهت "جدلية" إلى عدد من الكتاب السوريّين بحزمة أسئلة تنطلق من مقولة فانون حول العنف ودوره في التغيير الثوري. تقارب الأسئلة جدلية العنف والسلم في التغيير السياسي. فتقف عند مفهوم الثورة السلمية وإمكانية تحقيقها على أرض الواقع. كما تتعرض إلى العنف كوسيلة للتحرّر، خصوصاً من نظام حكم استبدادي. والمدى الذي تفرض فيه طبيعة الحكم وسائل مقارعتها ومقاومتها. والسؤال المحوري: ما العمل؟]
لا أستطيع أن أقول إن العنف هو الحلّ. لكنني أعتقد في الوقت ذاته، أن العنف الذي يمارسه النظام منذ سنتين، فتح أمام السوريين خيارات لا بد أن تكون أفضل. العنف الذي يتحدث عنه فرانتز فانون في كتابه "معذبو الأرض"، يشير إلى الكفاح المسلح ضد الاستعمار. وإن تأملنا السياسة الداخلية للنظام السوري خلال السنوات الأربعين الماضية، نجد أنها سياسة تعتمد العنف الممنهج في نواحٍ عدة. بدءاً من مصادرة الهوية تحت شعار "العلمانية" وصولاً إلى نهب الثروات وإجبار الشعب على تقبّل ظروف حياتية (اجتماعية- اقتصادية- صحية- تربوية...) موغلة في البؤس. وأعتقد أن مسألة مصادرة الهوية تلك، هي سبب رئيسي لما وصلت إليه الثورة حتى هذه اللحظة ولما ستصل إليه لاحقاً. في الواقع، سورية لم تكن بلد "التعايش السلمي" فقط لأن أهلها أرادوا ذلك، بل لأنهم كانوا مرغمين أيضاً تحت وطأة الحذاء العسكري، على أن يتعايشوا مع بعضهم البعض. وهذا الأمر يبدو حضارياً في معناه السطحي والاستشراقي والسياحي. إلا أنه خلّف في الواقع، جهلاً معيباً، وخوفاً وريبة من الآخر. من هو الآخر؟ ما دينه؟ ما طائفته؟ ماذا تعني تلك الطائفة؟ ما الفرق بينها وبين الطوائف الأخرى؟ وذلك الجهل، ساعد النظام على استفزاز هلع الطائفة العلوية وعلى إحكام قبضته على الطوائف كافة. ثمة آخر لا نعرف ملّته، سيأتي ليحتل "أرضنا"، وسيذبحنا! هذه العبارة، ليست من اختراعي. إنها "الفاتحة" بالنسبة إلى معظم أهل الساحل. يرددونها دون توقف، يمارسون حياتهم حالياً انطلاقاً من تلك العبارة، ويخططون لمستقبلهم على خلفية تلك العبارة.
بالعودة إلى فانون الذي يقول ما معناه أن التغيير الحقيقي لا يتم بتفاهم ودي، أيضاً، يبدو أن ثورة الشعب السوري ضد النظام لا يمكن أن تكون ثمرة تفاهم ودي. وأنا هنا لا أحلل بل أستعرض ما حدث خلال سنتين. إذ أثبت النظام عدم قدرته على خطّ أي تفاهم يدفعه إلى تقديم تنازلات ولو طفيفة. كما أثبت استعداده لتدمير كل ما يعترض طريقه للبقاء. والمفاوضات الوحيدة التي خاضها النظام منذ سنتين وحتى اللحظة، تدور حول كمية الدمار التي "يحق" له أن يحدثها، نوع الأسلحة والصواريخ التي "يحق" له استخدامها، عدد الأشخاص الذين "يحق" له قتلهم. عدا عن تلك الأمور، لا أعتقد أن مفاوضات حقيقية كانت تدور بينه وبين حلفائه الروس أو الإيرانيين أو "المعارضة الوطنية" في الداخل.
أما عن العنف كمفردة تنتمي إلى زمن "طلائع البعث" وليس إلى زمن "فانون"، فأجد أن كماً هائلاً من العنف تمت ممارسته بصمت وبصوت منخفض ومن دون إثارة أي ضجيج. في المدارس والمؤسسات الحكومية والشوارع والبيوت والمكاتب ووسائل النقل العامة والخاصة والمقاهي والمطاعم.. في النهاية، الصورة التي تتربع الجدران وزجاج السيارات ويافطات الإعلان، هي بحد ذاتها شكل من أشكال العنف. في كل مكان وكيفما تلفّت "المواطن" ثمة عنف صامت يمارس بحقه وبحق إنسانيته. والأصعب، هو التعايش مع ذلك العنف. والتعايش هنا قد يعني الاستسلام والخوف، لكنه لا يعني النسيان. "المواطن" لم ينسَ إنسانيته المهدورة ولا الإهانات المجانية التي يتعرض لها كل لحظة، ولا الأثمان الباهظة التي دفعها تحت شعارات "طنانة" كالمقاومة والمجهود الحربي والعزلة والحصار الاقتصادي.
ولا أعرف إن كان السياق الذي استخدمتم فيه العنف، مناسباً ودقيقاً. فانون تحدّث عن العنف كخيار للتحرر من آلة الاستعمار وكحل "شرعي". الظرف الذي عاشته الثورة السورية مختلف تماماً عن هذا التوصيف من جهة وعن الظروف التي عاشتها الثورات العربية الأخرى من جهة ثانية. على الرغم من كل ما حدث من مجازر وانتهاكات وقتل وإراقة دماء وتعذيب وتدمير للبنى التحتية وامتهان لكرامة المواطن السوري (وهنا لن أضع المواطن بين مزدوجتين، لأنه بات مواطناً للمرة الأولى منذ عقود)، لم يتحول العنف إلى حالة عامة والأهم أنه لم يتساوى عند الموالين كما عند المعارضين للنظام. منذ الشهر الأول للثورة، ثمة عنف مريع مارسه النظام وأعوانه ضد المواطنين إلا أن الثورة برأيي لم تقع في فخ العنف المفرط ولا في فخ الطائفية (باستثناء حالات فردية تتزايد مع مرور الوقت). في الوقت ذاته، أجد من الضروري القول إن السكوت عن الانتهاكات التي يمارسها الثوار، ليس سوى تواطؤ على الثورة وعلى المرحلة المقبلة. ويجب إيجاد صيغة أكثر جدية وحزماً من الإدانات التي يكتبها المعارضون والنشطاء على صفحات التواصل الاجتماعي.
لا يمكننا الحكم على الثورة السورية بالمعايير السياسية والاجتماعية والأخلاقية السائدة والمتعارف عليها. وسلمية الثورة كذلك لا يمكن أن تخضع لتقييم نظري عما إذا كان بالإمكان الاستمرار فيها من دون رفع السلاح. كل من يدعو إلى تسليح الثورة، متآمر. وكل من يدعو إلى سلميتها متآمر أيضاً. هل يحق لمعارضة الخارج أن تدعو الشارع لحمل السلاح؟ بالطبع لا. فهي لن تدفع الثمن. ستقصف أحياء بأكملها على رؤوس سكانها، بحجة مخزن للأسلحة أو مخبأ للمسلحين! طيب، هل يحق لها أن تطالب بسلمية الثورة؟ أيضاً لا. فهي لن تدفع الثمن. سترتكب مجازر بحق أبرياء ولن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم. ستصول اللجان الشعبية وتجول وترهب المواطنين العزل وتهينهم وتمارس كل أنواع العقد النفسية والأمراض بحقهم. لذلك أرى أن سلمية الثورة لم تكن خياراً. بل كانت مأزقاً أو شرّاً لا بد منه.
أما عن إمكانية الإصلاح، فسورية كانت من البلدان القليلة جداً التي لا تحتاج إلى تغيير جذري أو إلى قطيعة كاملة مع الماضي. الإصلاح كان ممكناً والنظام كان بوسعه البقاء دون أثمان باهظة. ليس البقاء في الحكم فقط، وإنما توطيد ذلك البقاء وجعله أقرب إلى "الشرعي" و"المنتخب" بشفافية وليس مستفتى عليه. إلا أن النظام فضّل التضحية بمئات الآلاف على أن يضحي بشخص واحد أو بمجموعة من الأشخاص. وهذا ليس أمراً يدعو للحزن. على العكس تماماً، من حسن حظ الشعب السوري وجيل "طلائع البعث" وأولاده، أن النظام لم يتنازل ولم يضحِ ولم يلين. الشعب لم يعد يريد التصفيق لجلّاده.
[ للإطلع على الأسئلة بالتفصيل وكذلك أجوبة بقية الكتاب يمكن الضغط هنا!]